فصل: تفسير الآيات (1- 8):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكذلك قال تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قولا ثَقِيلًا}. وكذلك قول القائل: (ألقيت على فلان سؤالا، وألقيت عليه حسابا) أي سألته عما يستكدّ له هاجسه، ويستعمل به خاطره.

.[سورة القمر: آية 46].

{بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46)}.
وقوله سبحانه: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ} [46] وهذه استعارة. لأن المرارة لا يوصف بها إلا المذوقات والمتطعمات، ولكنّ الساعة لما كانت مكروهة عند مستحقّى العقاب، حسن وصفها بما يوصف به الشيء المكروه المذاق.
ومن عادة من يلاقى ما يكرهه، ويرى ما لا يحبّه، أن يحدث ذلك تهيّجا في وجهه، يدل على نفور جأشه، وشدة استيحاشه، فكذلك هؤلاء إذا شاهدوا أمارات العذاب، ونوازل العقاب، ظهر في وجوههم ما يستدل به على فظاعة الحال عندهم، وبلوغ مكروهها من قلوبهم، فكانوا كلائك المضغة المقرة، وذائق الكأس الصّبرة، في فرط التقطيب، وشدة التهيج. وشاهد ذلك قوله سبحانه: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ}. اهـ.

.فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

قال محمد الغزالي:
سورة القمر:
{اقتربت الساعة وانشق القمر}. ظاهر العبارة أن هذا الانشقاق يقع آخر الزمان مع الاضطراب الفلكى الذي يعترى الأفلاك ومسيرتها. ومن هذا القبيل ما جاء في سورة القيامة {فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر}. ولكن ورد حديث عن ابن مسعود يفيد أن انشقاق القمر وقع على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن المشركين رفضوا الإذعان له، وبقوا على مكابرتهم يزعمون أن الرسول ساحر!! {وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر}. يعنون أن جهد الرسول في هدم الوثنية وزلزلة الأصنام ذهب سدى. فالعقائد كما هى، وأوضاع الجاهلية مستقرة لم يستطع المسلمون زحزحتها! مع أن الوحى النازل يدك الباطل ويمحو الظلمات.
{ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغن النذر}. إنه إذا لم يتحرك الضمير داخل الإنسان ويغريه بالإذعان والإيمان، فلا غناء في الدعوة مهما كانت بليغة. ولقد هدد الله المشركين بيوم البعث والجزاء، ثم ذكر لهم أن الأمم الضالة سوف تلقى مصيرا أليما قبل ذلك {ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله}. ومن هنا شرعت السورة تحكى في إيجاز شديد عواقب الضلال والعناد من عهد نوح {كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربه أني مغلوب فانتصر}. كنت أسمع هذه الآيات من فم قارئ ندى الصوت وقف على كلمة مغلوب وأطال مد الواو ست حركات مليئة بالقهر والضراعة والاستنجاد، ختل إلى أنها امتلأت بآلام تسعة قرون ونصف من جهاد الدعوة، وفشل الاستجابة، ونظرت حولى، فرأيت الدموع تطفر من الأعين رقة لعبودية نوح واستغاثته.! {ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر}. وبعد قوم نوح جاءت عاد، وكانت قبيلة مغرورة متكبرة، أوتيت بسطة في الأموال والأجساد ولم تستح أن تصف رسولها بالسفاهة وهو يدعوها إلى توحيد الله! {إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر}. كانت الريح العقيم تجلد الأرض بأجساد هؤلاء العماليق أو تجلد أجسادهم بالأرض، فإذا هم ممددون على الثرى كجذوع النخل التي طاحت رءوسها {فكيف كان عذابي ونذر} لقد هلك قوم نوح بالماء وقوم هود بالهواء، وهذه عناصر مأنوسة بيننا، ولكن الله إذا شاء أغرق بالماء، ودمر بالهواء!! {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} وجاءت ثمود بعد عاد، وأبرزت السورة الكريمة خطابها لنبيها صالح لأنه شبيه بما قاله أهل مكة لخاتم المرسلين، قالوا {أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري} وقبل ذلك {وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب}. ما أشبه ذلك بما قالته ثمود عن نبيها {فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر أألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر} أي مترقع دعى. وقتلت ثمود ناقة صالح التي خلقها الله من الصخر معجزة له، فنزل بهم عذاب حول أشخاصهم إلى غثاء كالهشيم الذي يفرش في الحظائر وتطؤه الدواب {إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر}. وننتقل إلى المدينة الفاجرة التي طغت شهواتها واستمرأت الشذوذ وفتحت له نوادى تقارفه. إن نبيها الصالح لوطا أعلن مقته لهذه الفاحشة، وحاول تهذيب طباعهم، لكنهم أبوا وحاولوا السطو على ضيوفه من الملائكة، فكانت عقوبتهم دمار مدينتهم. ويرى بعض المحققين أن تفجيرا ذريا جعل عاليها سافلها وأصاب من رأوه بالعمى!
{ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر}. واللواطة معروفة في الحضارة الحديثة، وقد أعقبت وباغ الإيدز المهلك. والغريب أن التوبة منها لم تخطر بالبال، وإنما النصيحة المبذولة: اقضوا شهوتكم، واحتاطوا لصحتكم!! ذلك ما يقوله رجال الدين وهم ينشرون الغشاء الواقى..! وماذا تنتظر ممن نسى الله؟ وختمت سير الأوائل بالحديث عن الفراعنة الذين يحكمون الناس قسرا وينشدون الاستعلاء في الأرض {ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر}. ثم قيل لمن يعى الخطاب: إن أعداء الإسلام لن يفلتوا من المصير الذي نال أسلافهم! {أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر أم يقولون نحن جميع منتصر سيهزم الجمع ويولون الدبر}. وقد تحقق هذا الوعيد، ونزلت بالمشركين هزيمة مُذَّلة في معركة بدر طاحت برءوس الكفر وأرغمت أنوفهم، وما ينتظرهم في الآخرة أقسى {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون}. وختمت السورة بحديث عن يوم الحساب، يوم يساق الجزاء العدل للفريقين {إن المجرمين في ضلال وسعر يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر}. أما المسلمون فلهم شأن آخر {إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر}. اهـ.

.في رياض آيات السورة الكريمة:

.فصل في أسرار ترتيب السورة:

قال السيوطي:
سورة القمر:
أقول: لا يخفى ما في توالى هاتين السورتين من حسن التناسق في التسمية، لما بين النجم والقمر من الملابسة، ونظيره توالى الشمس والليل والضحى، وقبلها سورة الفجر.
ووجه آخر، وهو: أن هذه السورة بعد النجم كالأعراف بعد الأنعام، وكالصافات بعد يس، في أنها تفصيل لأحوال الأمم المشار إلى إهلاكهم إلى قوله هناك: {وأَنه أَهلكَ عادًا الأولى وثمود فما أَبقى وقوم نوح من قبل إِنهم كانوا هُم أَظلم وأَطغى والمؤتَفِكة أَهوى}. اهـ.

.تفسير الآيات (1- 8):

قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقولوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقول الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
(بسم الله) الذي أحاط علمه فتمت قدرته (الرحمن) الذي وسعت رحمته كل شيء فعمت الشقي والسعيد (الرحيم) الذي خص بإتمام النعمة من اصطفاه فأسعدتهم رحمته.
لما ختمت النجم بالتهديد باقتراب القيامة التي ينكرونها بعد أن فتحها بالأقسام البلس (؟) في النجم الذي هو أعم من القمر وغيره بتسييره طلوعًا وأفولًا وصعودًا وهبوطًا، افتتح هذه بذلك مع الدلالة عليه عقلًا وسمعًا في التأثير في أعظم آيات الله وغير ذلك ليقطع العباد عن الفساد، ويستعدوا لها قبل مجيئها أحسن استعداد، فقال دالا على عظيم اقتداره عليها بتأنيث فعلها: {اقتربت الساعة} اشتدت قربًا الساعة: اللحظة التي لا ساعة في الحقيقة غيرها التي تقوم فيها القيامة لأنه قل ما بقي بيننا وبينها بالنسبة إلى ما مضى من زمن آدم عليه السلام لبعث خاتم الأنبياء الذي لم يبق بعد أمته أمة تنتظر، فيكون في الزمان مهلة لذلك.
ولما كان الإخبار باقترابها يحتاج عند المعاند إلى آية دالة عليه، وكانت الآيات السماوية أعظم، فالتأثير فيها أدل على تمام الاقتدار، وكان القمر أدل على الأنواء التي بها منافع الخلق في معاشهم، وكانت العرب أعرف الناس بها، دلهم على التأثير فيه على اقترابها مع الإرهاب من شدائد العذاب بإعدام الأسباب فقال: {وانشق} بغاية السرعة والسهولة {القمر} آية للرسول المنذر لكم بها، فكان انشقاقه- مع الدلالة على ذلك بإعجاز القرآن وغيره- دالًا على كونها وقربها أيضًا بالتأثير العظيم الخارق لعادة ما قبله من التأثير في أحد النيرين اللذين هما أعظم الأسباب المقامة للمعايش الدال على القدرة على التأثير في الآخرة الدال ذلك على القدرة على تمام التصرف فيهما من جمعهما وخسفهما واعتدامهما ولسببهما (؟) الذي هو من أسباب خراب الأرض، يقول الإنسان عنده: أين المفر؟ المؤذن بطيّ العالم المعلم بأن له ربًا فاعلًا بالاختيار مدبرًا بالحكم الدال على بعث عباده ليحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، فيثيب من تابع رسله ويعاقب من خالفهم، وانشقاق القمر على حقيقته في زمان النبي صلى الله عليه وسلم أمر شهير جدًا، وإجماع أهل التفسير عليه كما قاله القشيري، وقال: رواه ابن مسعود رضي الله عنده ولا مخالف له فيه- انتهى.
وذلك أن قريشًا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم انشاق القمر بحيث طلعت فرقة عن يمين حراء وأخرى عن يساره رواه الشيخان عن ابن مسعود وأنس- رضى الله عنهما-، ومعلوم أن الأمة تلقت كتابيهما بالقبول فهو يكاد يلحق بالمتواتر وقد أيده القرآن فلم يبق فيه شك، قال القشيري: وروى أيضًا ابن عمر وحذيفة وابن عباس وجبير بن مطعم- رضى الله عنه- م، وقال أبو حيان: سبب نزولها أن مشركي العرب من قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقًا فشق لنا القمر فرقتين، ووعدوه بالإيمان إن فعل ذلك، وكانت ليلة البدر فسأل ربه فانشق- انتهى، ومن قال: المراد به سينشق يحتاج في صرف الماضي عن حقيقته إلى المستقبل إلى صارف وأنى له ذلك ولا سيما وقد تأيدت الحقيقة بالنسبة الصحيحة الشهيرة.
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير: لما أعلمهم سبحانه بأن إليه المنتهى، وأن عليه النشأة الأخرى، وإذا ذاك يقع جزاء كل نفس بما أسلفت، أعلمهم سبحانه بقرب ذلك وحسابه ليزدجر من وفقه للازدجار فقال تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر} ثم إن سورة ص تضمنت من عناد المشركين وسوء حالهم وتوبيخهم في عبادتهم ما لا يضر ولا ينفع ما يكاد يوجد في غيرها مما تقدمها، وبعد التنبيه في السورة قبلها والتحريك بآيات لا يتوقف عنها إلا من أضله الله وخذله، وأثبتت السورة بعد على تمهيد ما تضمنته سورة ص فلم يخل سورة منها من توبيخهم وتقريعهم لقوله في الزمر {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3] وقوله: {لو أراد الله أن يتخذ ولدًا لاصطفى مما يخلق ما يشاء} [الزمر: 4] وقوله: {قل الله أعبد مخلصًا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه} [الزمر: 14] وقوله مثلًا لحالهم: {ضرب الله مثلًا رجلًا فيه شركاء متشاكسون} [الزمر: 29] الآية إلى ما بعد من التقريع والتوبيخ، وقوله في سورة غافر: {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد} [غافر: 4] وقوله: {ذلكم بأنه إذ دعى الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله} [غافر: 12] وقوله: {أفلم يسيروا في الأرض} [غافر: 21- 82] الآية، وقوله: {إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه} [غافر: 56] وقوله: {ألم تر إلى الذين يجادلون في أيات الله أنى يصرفون} [غافر: 69] {الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون} [غافر: 70] إلى قوله: {فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون} [غافر: 77] وقوله: {أو لم يسيروا في الأرض} [غافر: 82] إلى ما تخلل هذه الآيات، وقوله في فصلت {فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة} [فصلت: 5
] {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} [فصلت: 26] {إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا} [فصلت: 40- 44] إلى قوله: {أولئك ينادون من مكان بعيد} [فصلت: 40- 44] وقوله: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم} [فصلت: 53] إلى آخر السورة، وقوله في الشورى: {والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل} [الشورى: 6] {كبر على المشركين ما تدعوهم إليه والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم} [الشورى: 13] الآية {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [الشورى: 21] الآية {فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظًا إن عليك إلا البلاغ}.
[الشورى: 48] وقوله في الزخرف: {أفنضرب عنكم الذكر صفحًا} [الزخرف: 5] الآية، {وجعلوا له من عباده جزءًا} [الزخرف: 15] إلى ما تردد في هذه السورة مما قرعوا به أشد التقريع، وتكرر في آيات كثيرة فتأملها مثل قوله تعالى في الدخان {بل هم في شك يلعبون} [الدخان: 9] إلى قوله: {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون} [الدخان: 16] وقوله: {إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين} [الدخان: 40] إلى قوله هذا {ما كنتم به تمترون} [الدخان: 50] وقوله في الأعراف: {فبأيّ حديث بعده يؤمنون} [الأعراف: 185] إلى قوله: {والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم} [الجاثية: 11] وقوله: {أفرءيت من اتخذ إلهه هواه} [الجاثية: 23] إلى آخر السورة، وقوله في الأحقاف: {والذين كفروا عما أنذروا معرضون} [الأحقاف: 3] ومعظم هذه الآية لم يخرج عن هذا إلى ختامها، وكذلك سورة القتال ولم يتضمن إلا الأمر بقتلهم وأسرهم وتعجيل حربهم {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب} [محمد: 4] وأما سورة الفتح فما تضمنته من البشارة والفتح أشد على الكفار من كل ما قرعوا به، ولم تخرج عن الغرض المتقدم، وكذا سورة الحجرات لتضمنها من الأمر بتقدير النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله ما يقر عين المؤمن ويقتل العدو الحاسد وما فيها أيضًا من إتلاف أمر المؤمنين وجمع كلمتهم وتآخيهم، وموقع هذا لا يخفى على أحد، وأما سورة الذاريات والطور والنجم فما تضمنته مما ذكرناه قبل أوضح شيء، وبذلك افتتحت كل سورة منها فتأمل مطالعها ففي ذلك كفاية في الغرض- والله تعالى هو أعمل بالصواب، فلما انتهى ما قصد من تقريع مكذبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغت الآي في هذه السورة من ذلك أقصى غاية، وتمحض باطلهم وانقطع دابرهم، ولم يحيروا جوابًا فيما عرض عليهم سبحانه في سورة القمر من أحوال الأمم مع أنبيائهم، وكان القصد من ذلك- والله أعلم-.
مجرد التعريف بأنهم ذكروا فكذبوا فأخذوا ليتبين لهؤلاء أن لا فرق بينهم وبين غيرهم وأن لا يغرهم عظيم حلمه سبحانه عنهم، فهذه السورة إعذار عند تبكيتهم وانقطاع حجتهم بما تقدم وبعد أن انتهى الأمر في وعظهم وتنبيههم بكل آية إلى غاية يعجز عنها البشر، ولهذا افتتح سبحانه هذه السورة بقوله تعالى: {ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغن النذر} وختمها سبحانه بقوله: {أكفاركم خير من أولائكم أم لكم براءة في الزبر} وهذا يبين ما قدمنا، وكان قد قيل لهم: أي فرق بينكم وبين من تقدم حتى ترتكبوا مرتكبهم وتظنوا أنكم ستفوزون بعظيم جزائكم، فذكر سبحانه لهم قصة كل أمة وهلاكها عند تكذيبها بأعظم إيجاز وأجزل إيراد وأفخم عبارة وألطف إشارة، فبدأ بقصة قوم نوح بقوله: {كذبت قوم نوح} إلى قوله: {ولقد تركناها آية فهل من مدكر فكيف كان عذابي ونذر} ثم استمر في ذكر الأمم مع أنبيائهم حسبنا ذكروا في السورة الوارد فيها إخبارهم من ذكر أمة بعد أمة إلا أن الواقع هنا من قصصهم أوقع في الزجر وأبلغ في الوعظ وأعرق في الإفصاح بسوء منقلبهم وعاقبة تكذيبهم، ثم ختمت كل قصة بقوله: {فكيف كان عذابي ونذر} وتخلل هذه القصص بقوله تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} وهي إشارة إلى ارتفاع عذر من تعلق باستصعاب الأمور على زواجره وتنبيهاته ومواعظه ويدعي بعد ذلك واستعلاقه فقيل له إنه ميسر قريب المرام، وهذا فيما يحصل عند التنبيه والتذكير لما عنده بكون الاستجابة بإذن الله تعالى ووراء ذلك من المشكل والمتشابه ما لا يتوقف عليه ما ذكره وحسب عموم المؤمنين الإيمان بجميعه والعمل بمحكمه، ثم يفتح الله تعالى فهم ذلك على من شرفه به وأعلى درجته، فيتبين بحسب ما يشرح الله تعالى صدره {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} ومن تيسر المقصود المتقدم تكرار قصص الأنبياء مع أممهم في عدة سور أيّ حفظ مها اطلع على ما هو كاف في الاعتبار بهم، ثم إذا ضم بعضه إلى بعض اجتمع منه ما لم يكن ليحصل من بعض تلك السورة، فسبحان من جعله حجة باهرة وبرهانًا على صدق الآتي به محمد صلى الله عليه وسلم، وصراطًا مستقيمًا ونورًا مبينًا، ولما ذكر سبحانه عواقب الأمم في تكذيبهم قال لمشركي العرب: {أكفاركم خير من أولائكم} ومن هذا النمط قول شعيب عليه السلام: {ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد} [هود: 89] ثم قال تعالى: {أم يقولون نحن جميع منتصر سيهزم الجمع ويولون الدبر} إي إنكم تعلقتم بتألفكم وجماعتكم فسأفرق ذلك بهزيمتكم يوم بدر بقتل صناديدكم فما حجتكم بعد هذا، إنما مساق القصص في هذه السورة واعتماد التعريف بحال من ذكر في أن كذبوا وعاندوا، فأعقب تكذيبهم أخذهم وهلاكهم، ثم تعقب هذا كله بصرف الكلام في مشركي العرب في قوله: {أكفاركم خير من أولائكم} وليس شيء من السور المذكورة فيها قصص على هذا الاستيفاء كالأعراف وهود، وبظاهرهما ليس في شيء من ذلك تعقيب بذكر مشركي العرب على الصفة الواردة هنا، فأنبأ ذلك بكمال المقصود من الوعظ والتحريك بذكره وانقضاء هذا الغرض، وذلك أنهم ذكروا أولًا بعرض أحوال الأمم والتعريف بما آل إليه أمرهم، وكان ذلك في صورة عرض من يريد تأديب طائفة من إليه نظرهم قبل أن يظهر منهم تمرد وعناد، فهو يستلطف في دعائهم ولا يكلمهم تكليم الواجد عليهم، بل يفهم الإشفاق والاستعطاف وإرادة الخير بهم ثم يذكرهم بذلك ويكرره عليهم المرة بعد المرة وإن تخلل ذلك ما يبين منهم فظاعة التهديد وشدة الوعيد، فلا يصحبه تعيين المخاطب وصرف الكلام بالكلية إليه، بل يكون ذلك على طريق التعريض والتوبيخ، ثم لو كان لا يحتقر بما قبله وما بعده من التلطف حتى إذا تكررت الموعظة فلم تقبل، فهنا محل الغضب وشدة الوعيد، وعلى هذا وردت السور المذكور فيها حال الأمم كسورة الأعراف وهود والمؤمنين والظلة والصافات، وما من سورة منها إلا والتي بعدها أشد في التعريف وأمل في الزجر بعد التعريف، فتأمل تعقيب القصص في سورة الأعراف بقوله تعالى: {وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون} [الأعراف: 174] وقوله بعد موعظة بالغة بذكر من حرمه بعد إشرافه عل الفوز وهو الذي أخلد إلى الأرض واتبع هواه فقال بعد ذلك {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} [الأعراف: 176] وتذكيره إياه لمحنة الغفلة إلى ما ختمت به السورة وذلك غير خاف في التلطف بالموعظة وقال تعالى بعد قصص سورة هود: {وكذلك أخذ ربك} [هود: 102] الآية، وقال تعالى: {فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء} [هود: 109]- إلى قوله- {وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص} [هود: 109] وتكررت الآية إلى آخر السورة يجاري ما ذكر ولم تبق هذه وآي الأعراف في تلطف الاستدعاء، وقال تعالى في قصص آخر سورة المؤمنين: {فذرهم في غمرتهم حتى حين} [المؤمنون: 54]- إلى قوله- {لا يشعرون} [المؤمنون: 56] ثم قال: {ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون} [المؤمنون: 64] استمرت الآي على شدة الوعيد يتلو بعضها بعضًا إلى قوله: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون} [المؤمنون: 115] وقوله تعالى بعد: {إنه لا يفلح الكافرون} [المؤمنون: 17] ولم يبين هذه الآي، وبين الواقعة عقب قصص سورة هود، وقال في آخر قصص الظلمة: {وإنه لتنزيل رب العالمين} [الشعراء: 192] إلى قوله خاتمة السورة: {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} [الشعراء: 227] فوبخهم وعنفهم ونزه نبيه صلى الله عليه وسلم عن توهمهم وعظيم إفكهم وافترائهم، وكل هذا تعنيف وإن لم يتقدم له مثله في السورة المذكورة، ثم هو صريح في مشركي العرب معين لهم في غير تلويح ولا تعريض، ثم إنه وقع عقب كل قصة في هذه السورة قوله تعالى: {إن في ذلك} وفيه تهديد ووعيد، وقال تعالى في آخر والصافات: {فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثًا وهم شاهدون ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون} [الصافات: 149] وهذا أعظم التوبيخ وأشد التقريع، ثم نزه نبيه سبحانه عن بهتان مقالهم وسوء ارتكابهم وقبح فعالهم، بقوله: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون} [الصافات: 180] فلما أخذوا بكل مأخذ فما أغنى ذلك عنهم قال تعالى في سورة القمر: {ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر} {حكمة بالغة فما تغني النذر}، ثم قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فتول عنهم} ولم يقع أمره صلى الله عليه وسلم بتركهم والإعراض عنهم والتولي إلى بعد حصول القصص في السورة المذكورة وأخذهم بكل طريق، وأول أمره بذلك صلى الله عليه وسلم في سورة السجدة {فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون} ثم في سورة والذريات {فتول عنهم فما أنت بملوم} بأشد وعيد وأعظم تهديد بعقب كل قصة بقوله: {ولقد تركناها آية فهل من مذكر} وقوله: {فكيف كان عذابي ونذر} ثم صرف إليهم بما تقدم قوله: {أكفاركم خير من أولائكم أم لكم براءة في الزبر} فبلغ ذلك أعظم مبلغ في البيان وإعذار، ثم قال تعالى: {وكل شيء فعلوه في الزبر} ففرق سبحانه بسابق حكمته فيهم {إنا كل شيء خلقناه بقدر} وانقضى ذكر القصص فلم يتعرض لها مستوفاة على المساق فيما بعد إلى آخر الكتاب- فسبحان من رحم به عباده المتقين وجعله آية وأي آية باهرة إلى يوم الدين، وقطع عناد الجاحدين وغائلة المعتدين وجعله بيانًا كافيًا ونورًا هاديًا وواعظًا شافيًا- جعلنا الله سبحانه وتعالى ممن اهتدى واعتلق بسببه إنه أهل الاستجابة والعفو والمغفرة- انتهى.